حديث (ولا يأكل طعامك إلا تقي)
من النصوص النبوية التي يشكل ظاهرها، ولا بد من النظر في معناه ومقصده الذي يرمي إليه، حديث رواه أبو داود وابن حبان وغيرهماعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله ﷺ: «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأ كل طعامك إلا تقي». وحسنه الألباني.
تحرير محل البحث:
أولا: ليس المراد حرمان غير التقي من الإحسان لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم أطعم المشركين، وأعطى المؤلفة المئات من الإبل، ولكن يقول شراح الحديث: يطعمه ولا يخالطه، فالمحذور هو المخالطة، لما تؤدي إليه من الألفة والتجانس، وانتقال الطباع، وليس مجرد البذل للإحسان، إو مطلق الإطعام، فهذا قد تواردت النصوص على الندب إليه، وطلبه من المسلم، لكل ذي كبد رطبة، من الإنسان وحتى الحيوان.
ثانيا: موضع الإشكال:
ظاهر الحديث قد أشكل على الشراح قديما حين عرضوه على الآية الكريمة، (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) [سورة الإنسان]، والأسير يكون كافرا، فكيف يبذلون الطعام للأسير الكافر، وهو أشد من المسلم غير التقي؟
وقد أجابوا عن هذا الإشكال، فقالوا: بأن المقصود به طعام الدعوة لا طعام الحاجة، فالمحتاج يبذل له الطعام ولو كان غير تقي، فحملوا الحديث على طعام الدعوة، فلا تدعو غير تقي إلى طعامك.
قال الخطابي في حل هذا الإشكال بين ظاهر الحديث والآية: “هذا إنما جاء في طعام الدعوة دون طعام الحاجة وذلك أنه تعالى قال: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) [سورة الإنسان] ومعلوم أن أسراهم كانوا كفارا غير مؤمنين، وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي، وزجر عن مخالطته ومؤاكلته لأن المطاعم توقع الألفة والمودة في القلوب”. انتهى
الإشكال الثاني:
من وجوه الإشكال الواردة على ظاهر الحديث، وفي زمن تغير الأحوال، وفشو الفسق، قد لا يتحقق هذا الوصف في كثير من الناس، لاسيما والشراح يفسرون التقي بالورع، والتمسك بهذا الظاهر يؤدي إلى الوحشة بين أفراد المجتمع، وتصنيفهم إلى تقي يدعى ويؤاكل، وغير تقي يستبعد عن المجالسة والمؤاكلة، وهم الأكثر، وهذا يؤدي للنفرة بين الناس، في دائرة الأقارب، فضلا عن النفرة بين المسلمين عموما، بينما الشريعة جاءت بما يؤلف القلوب، ويجمع الكلمة، ورغبت بإطماع العاصي بالتوبة، من خلال الإحسان إليه، والتلطف به؛ لأجل هذا وجه بعض الشراح ظاهر الحديث، وأولوه بما يتفق مع هذا المقصد.
قال الطيبي: (ولا يأكل) نهي لغير التقي أن يأكل طعامه، والمراد نهيه عن أن يتعرض لما لا يأكل التقي طعامه من كسب الحرام، وتعاطي ما ينفر عنه التقي، فالمعنى لا تصاحب إلا مطيعا ولا تخالل إلا تقيا انتهى، والحاصل أن مقصود الحديث كما أشار إليه الطيبي النهي عن كسب الحرام وتعاطي ما ينفر منه المتقي.
ومما يوجه به النهي في الحديث في ضوء العلة والمقصد بأن يقال: إن النهي محمول على حال التأثر بمجالسة غير المؤمن، ومطاعمة غير التقي، وأما إذا كان بقصد دعوته ومناصحته، ومحاولة التأثير عليه، فإن هذا لا يقصده الحديث، ولا ينهى عنه؛ بل يكون مطلوبا شرعا، أخذا بالنصوص الآمرة ببذل النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي كلية شرعية توافرت النصوص عليها، فلا يصلح أن نناقضها بفهم الظاهر لهذا الحديث،
بل ينبغي النظر إليه في سياق مقصده، وفي إطار النصوص الأخرى، والكليات الشرعية العظمى، مع الموازنة بينها بنظر منضبط، حتى لا يكون الفهم الجزئي للنصوص مناقضا لما اعتبرته الشريعة من المصالح الكبرى، مما تقدم من التناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يقتضي اللطف واللين بالمنصوح، وعدم تنفيره بعزله عن المجتمع، فإن هذا لا يزيده إلا تماديا وعنادا، مما يؤدي إلى إهدار المقاصد الكبرى بمقابل المحافظة على ظواهر غير مقصودة بحرفيتها المتوهمة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا” رواه مسلم.