ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.. يبحث الكثيرون عن قوله تعالى: « وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ »، ( سورة آل عمرآن: الآية 169)، وعن فضل الآية الكريمة وتفسيرها وسبب نزولها، خاصة بعدما أعلن المُتحدث العسكري، مساء أمس الخميس، عن استشهاد 10 جنود وضابط جيش وإصابة ثلاثة آخرين، بعد تفجر عبوة ناسفة في كمين كمين غرب التفاحة في بئر العبد بشمال سيناء، بعملية إرهابية.
سبب نزول ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا:
قيل في سبب نزول قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) أنّها نزلت في الذين استشهدوا يوم أحد خاصة كما قال أبو الضحى، وروي عن جماعة المفسرين أنها نزلت في شهداء بئر معونة، وقال آخرون أنها نزلت تسلية لقلوب أولياء الشهداء، ذلك أنّهم كلما كانوا في النعيم تذكروا إخوانهم وآباءهم الذين استشهدوا فقالوا نحن في النعمة والسرور وإخواننا في القبور، فنزلت تلك الآية حتى يعلم أولياء الشهداء حال أقربائهم الذين استشهدوا وأنّهم عند ربهم يرزقون ويتنعّمون.
وقد جاء في السنة النبوية عن سبب نزول هذه الآية قوله -عليه الصلاة والسلام- عن شهداء أحد ((لمَّا أُصيبَ إخوانُكم بأُحُدٍ جعلَ اللَّهُ أرواحَهم في أجوافِ طَيرٍ خُضرٍ ترِدُ من أنهارِ الجنَّةِ وتأكلُ من ثمارِها وتأوي إلى قناديلَ من ذهبٍ معلقةٍ في ظلِّ العرشِ، فلمَّا وجدوا طيبَ مأكلِهم، ومشربِهم، ومقيلِهم فقالوا من يبلِّغُ إخوانَنا عنَّا أنَّا أحياءٌ في الجنَّةِ نُرزَقُ؟ لئلا يزهَدوا في الجهادِ ويتَّكِلوا عن الحربِ، فقال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: أنا أُبلِغُهم عنكم، فأنزلَ اللَّهُ الآية (ولا تحسبن ..)).
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
أنواع الشهداء
الشهداء عند الله أنواع فأفضلهم وأعلاهم درجة من استشهد في سبيل الله تعالى، وكذلك من قتل دون نفسه، أو عرضه، أو ماله، ومن الشهداء كذلك: المبطون، والحريق، والغريق، وصاحب الهدم، والمرأة تموت بجمع أي تموت وهي حامل، وكذلك من قتل دون مظلمته، ومن صرع عن دابته.
فضل الشهادة والشهداء
لا شك بأن للشهادة أجر وفضل كبير، ويدلّ على ذلك تمنى النبي عليه الصلاة والسلام القتل في سبيل الله أكثر من مرة، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة – رضى الله عنه- في صحيح البخاري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: « والَّذي نَفسِي بيدِهِ ، لولا أنَّ رِجالًا مِن المؤمنينَ لا تَطيبُ أنفسُهُم أن يتخلَّفُوا عنِّي ، ولا أجِدُ ما أحملُهُم عليهِ ، ما تخلَّفتُ عَن سرِيَّةٍ تغزُو في سَبيلِ اللهِ ، والَّذي نَفسِي بيدِه ، لوَدِدتُ أنِّي أُقتَلُ في سبيلِ اللهِ ثمَّ أُحيَا ، ثمَّ أُقتَلُ ثمَّ أُحيَا ، ثمَّ أُقتَلُ ثمَّ أُحيَا ، ثمَّ أُقتَلُ ».
والشهداء ليسوا أمواتًا، بل هم أحياء يتنعمون عند ربهم ويرزقون، وقد ذكرت الفضائل التي ينالها الشهيد عند موته في الحديث الذي رواه المقدام بن معدي كرب في سنن الترمذي، قال -عليه الصلاة والسلام -((للشهيدِ عندَ اللهِ ستُّ خصالٍ : يُغفرُ لهُ في أولِ دفعةٍ، ويَرى مقعدَهُ منَ الجنةِ، ويُجارُ منْ عذابِ القبرِ، ويأمنُ منَ الفزعِ الأكبرِ، ويُوضعُ على رأسِهِ تاجُ الوقارِ، الياقوتةُ منها خيرٌ منَ الدنيا وما فيها، ويُزوَّجُ اثنتينِ وسبعينَ زوجةً من الحورِ العينِ، ويُشفَّعُ في سبعينَ منْ أقاربِهِ)).
في الحديث الشريف السابق:
يغفر الله -تعالى- ذنوب الشهيد الذي يُقتل في سبيل الله، عند تدفّق الدم من جرحه.
يُري الله -تعالى- الشهيد ما أعدّ له من النعيم في الجنّة.
يؤمّن الله -تعالى- الشهيد من عذاب القبر، ويحفظه منه.
يُنجي الله -تعالى- الشهيد من الفزع الأكبر، كما قال الله تعالى:(لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ)، وقد اختُلف في معنى الفزع الأكبر، فقيل: هو النفخة الأخيرة في الصور، وقيل: هو عند ذبح الموت، وقيل: عندما يؤمر أهل النار بدخولها، وقيل: عند إطباق النار على الكفار.
يُلبس الله -تعالى- الشهيد تاج الوقار، وهو تاج العزّة والعظمة، وفي ذلك التاج أحجار الياقوت؛ وهي أحجار كريمة، شفافة، شديدة الصلابة، تستعمل للزينة، ولكنّ الحجر الواحد من تلك الحجارة أفضل من نعيم الدنيا جميعه.
يتزوّج الشهيد من اثنتين وسبعين من الحُور العِين، والحور هو شدة سواد العَين وبياضها، والعِين؛ أي واسعة العَين، وهذا من أهمّ ميزات الجمال في النساء.
يقبل الله شفاعة الشهيد في سبعين من أهله؛ وأهله هم: أبويه، وأولاده، وزوجاته، وغيرهم من الأقارب، بالإضافة إلى الأحباب والمقرّبين منه، وتجدر الإشارة إلى أنّ المقصود من الرقم سبعين؛ قد يكون تحديدًا، وقد يكون تكثيرًا لا تحديدًا، حيث إنّ العرب تستعمل مضاعفات العدد سبعة للدلالة على الكثرة، ومثال ذلك قول الله تعالى: (إِن تَستَغفِر لَهُم سَبعينَ مَرَّةً فَلَن يَغفِرَ اللَّهُ لَهُم)، فمن الممكن أن يشفع الشهيد لأكثر من سبعين من أقاربه.
مواقف للصحابة
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
ان الصحابة -رضي الله عنهم- يتسابقون للشهادة في سبيل الله، وفي ما يأتي قصص لبعض الذين أكرمهم الله -تعالى- بالشهادة:
حنظلة بن أبي عامر: عندما نادى منادي الجهاد، كان حنظلة بن أبي عامر -رضي الله عنه- في صبيحة عرسه، فخرج مُسرعًا، وبعد انتهاء معركة أحد، وجد الناس حنظلة بين الشهداء، فأخبر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- الصحابة -رضي الله عنهم- أنّ الملائكة غسّلته، ولمّا سأل رسول الله زوجته عن أمره، أخبرته بأنّه لمّا سمع النداء خرج، حتى قبل أن يغتسل من جنابته، فعلم رسول الله -صلّى االله عليه وسلّم- سبب تغسيل الملائكة له، وسميّ بعدها بغسيل الملائكة.
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
عمرو بن الجموح: لمّا حضر يوم أحد، كان عمرو بن الجموح -رضي الله عنه- كبير السن، بالإضافة إلى أنّه كان أعرجًا شديد العرج، وكان له أربعة أولاد يقاتلون في سبيل الله، مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا استعدّوا للخروج أراد عمرو بن الجموح الخروج للقتال، فقال له أبناؤه: (إنّ الله قد جعل لك رخصةً، فلو قعدت ونحن نكفيك القتال، فقد وضع الله عنك القتال)،
فذهب عمرو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخبره بأنّ أولاده يمنعوه من الجهاد في سبيل الله بسبب عرَجه، وأنّه يطمع بالشهادة ليطأ الجنة بعرجته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (أمَّا أنتَ فقدْ وضَعَ اللهُ عنكَ الجهادَ، وقال لبنيه: وما عليكم أن تدعوه لعلّ اللهَ -عزّ وجل- أن يرزقه الشهادة)، فخرج عمرو بن الجموح للجهاد في سبيل الله، وقد بلغ من العمر الستين –.
عباد الله المخلَصين وصفاتهم
وردت كلمة المُخلَصين بفتح اللَام في مواضع عديدةٍ من كتاب الله، فالله -سبحانه- يستخلص من عباده المؤمنين أُناسًا قد اجتمعت فيهم صفات الكمال والتَّقوى، منهم أنبياءُه -عليهم الصَّلاة والسَّلام- ومنهم المؤمنون عمومًا، ومن هنا نستنتج وجود درجةٍ أعلى من درجة الإخلاص، وهي الدَّرجة التّي يتحوَّل المسلم فيها من رتبة المخلِصين إلى رُتبة المخلَصين، وهذه الدَّرجةُ لا يصلها إلَّا القليل من المسلمين؛
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
حيث إنَّ المخلَصين هم الذين أخلصهم الله، واصطفاهم، واختارهم لطاعته، أمّا المخلِصون فهم الذين أخلصوا لله -تعالى- في أعمالهم فعبدوه عبادةً خالصةً، وإنَّ قيام المؤمن بأعماله بإخلاص لا يستلزم رفعته على الذين أخلصهم الله واصطفاهم، وربَّما يجتمع فيه الأمران، فهو مخلِصٌ في أعماله لله بالإضافة إلى أنَّ الله أخلصه واصطفاه واختاره لطاعته.
ولأصحاب الإخلاص الذين أخلصهم الله ميِّزاتٍ ذكرها الله في القرآن الكريم، وذكرها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سنته الشريفة، وهي:
الحرص على أعمال الخلوة والخبيئة الصالحة بينهم وبين الله.
دوام تزكيتهم أنفسهم، ومجاهدتها على موافقة الحقِّ واتّباعه.
متفانون في محبَّة الله تعالى، والإخلاص له، والخضوع لجلاله في عبادتهم وطاعتهم.
يستحقُّون المقام الآمن المطمئنَّ بجوار ربّهم تعالى؛ جنَّاتٌ فيها عيونٌ وأنهار، يدخلونها بسلامٍ وأمن، وصدورهم نقيةٌ فارغةٌ من أيِّ حقد.
يتَّصفون بالتقوى ومراقبة ما يرضي الله تعالى، ويُجنّبون أنفسهم العذاب وأسبابه.
الإخلاص نيل أعلى مراتب التَّكريم؛ فهم مُختارون، وهم أخيارٌ، حيث أخلصهم الله، واختارهم، واصطفاهم لعبادته ودعوته وولايته.
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
الفِطرة الصَّادقة، وسلامة القلب وطهارته واستقامته في استنكار كلِّ ما تنفر منه الفطرة من تصوُّرٍ أو سلوك.
لا يُفتنون ولا يُضَلُّون؛ لأنّهم من عباد الله المؤمنين الطَّائعين، فطبيعتهم لا تؤهّلهم لأن يستجيبوا إلى الفتنة أو سماع كلام الفاتنين.
ليس للشَّيطان عليهم سبيلٌ أو سلطانٌ أو تأثير، حيث أقسم أن يغوي النَّاس جميعًا إلّا المُخلَصين، فمداخل الشيطان إلى أنفسهم مغلقة؛ لأنَّهم جرَّدوا أنفسهم لله وحده، واتَّصلوا به وعبدوه حقَّ عبادته، فاستخلصهم الله لنفسه كما أخلصوا أنفسهم لله، وحماهم ورعاهم من إغواء الشَّيطان لهم وتزيين الباطل واشتهائه في نفوسهم.
مُكَرَّمون في الملأ الأعلى؛ حيث أكرمتهم الملائكة الكرام، وصاروا يدخلون عليهم من كل بابٍ يهنِّئونهم ببلوغ أهنأ الثواب، كما أكرمهم أكرم الأكرمين، وجاد عليهم بأنواع الكرامات من نعيم القلوب والأرواح والأبدان.
وعدُ الله لهم بنعيمٍ يتقلَّبون فيه في الحياة الآخرة ويستمتعون فيه، وهو نعيمٌ مضاعفٌ يجمع شتَّى أنواع النَّعيم، وتجدُ النَّفس منه كلَّ ما تشتهيه، وقد ذكرت سورة الصافات بعضًا من هذه النِّعم؛ منها أنَّ لهم فواكه يأكلونها، ويُحملون على أكُفِّ الرَّاحة فهم يُخدمون ولا يتكلَّفون جُهدًا، بالإضافة إلى أنَّهم يتسامرون فيما بينهم ويتذاكرون الماضي والحاضر، إلى غير ذلك من مظاهر النَّعيم.
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
فرارُهم من الشُّهرة، وابتعادهم عن أعين المادحين.
قبولُهم للحقِّ والرجوع إليه إذا ذُكّروا به.
استثناهم الله من تذوُّق العذاب الأليم، فاختصَّهم برحمته، وجاد عليهم بلطفه، بل إن كان لهم سيئاتٍ يتجاوز عنها، ويجزيهم الحسنة بعشرة أمثالها.
والإخلاص من العبد في مقابل الله -عزَّ وجلّ- هو إخلاص النِّية من الشوائب، وتوحيدُه في التوجُّه إليه، والانقطاعُ عمَّا سواه، أمَّا الإخلاص من الله في مقابل العبد هو التَّخليص التَّكوينيُّ واختيار العبد تكوينًا من بين سائر العباد على صفاتٍ متميزةٍ، واستعدادٍ خاصٍّ يليق بأن يجعل فيه الرِّسالة وأنوار المعرفة، وهذا المعنى هو المُراد من الآيات الكريمة: (إِنَّهُ كانَ مُخلَصًا وَكانَ رَسولًا نَبِيًّا)،
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
وقوله تعالى: (إنَّهُ مِن عِبادِنَا المُخلَصينَ)، والاعتبار الذي اختيرت عليه مادَّة الخلوص دون مادَّة الاصطفاء، أو الاجتباء، أوالاختيار، أوالامتياز وأمثالها، هي أنّ المُخلَص من الخُلُوص وهو نقاء الذَّات وصفاؤها، أمَّا تلك المواد الأخرى فهي راجعةٌ إلى جهةٍ خارجيَّةٍ وخصوصيَّةٍ زائدةٍ على الذات.
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
ما يعين على تحقيق الإخلاص:
الإخلاص شرطٌ من شروط قبول العمل الصَّالح الذي يُبتغى به وجه الله، وهنا ذكرٌ لبعض الأمور المُعينة للعبد على تحقيق الإخلاص:
تحقيقُ التَّوحيد لله تعالى، واستشعارُ معنى العبوديَّة لله سبحانه وتعالى.
مراقبة الله، واللُّجوء إليه بالدُّعاء بأن يجعله من العباد المخلِصين.
الاهتمام بأعمال القلوب وإصلاحها.
مجاهدة النَّفس عند رُكونها إلى الكسل والشَّهوات.
محاسبةُ النَّفس قبل العمل، وأثناء العمل، وبعد العمل. اتِّخاذ خبيئة من الأعمال بينك وبين الله، لا يعلمها أحد.
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
الاستعانة بطاعة الله من خلال الإكثار من الصيام، والقيام، وصدقة السِّر.
إدراك قبح الرِّياء وأضراره على النَّفس في الدنيا والآخرة.
الزُّهد في مدح النَّاس وثنائهم، وقَطعُ الطَّمع عمَّا في أيديهم.
قراءة سيرة المخلصين من سلف الأمة، والاعتبار بفلاحهم، ومحاولة الاقتداء بهم.
الحرص على أعمال القلوب؛ فمعلومٌ أن القلب إذا صلح؛ صلح الجسد كله، وإذا فسد؛ فسد الجسد كله.
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا